ورقة الجوكر و البداية الدامية.
♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕
في احدى الليالي الشتوية، حيث السماء سوداء لا يكسر سوادها الا شعاع خفيف من ضوء القمر و بريق بعض النجوم المتناثر الرياح تعصف بشيء من القوة و هي تحرك اغصان الاشجار و نوافذ المنازل المفتوحة لتصدر اصواتا ممزوجة بين كونها مخيفة و مزعجة في نفس الوقت، كان هناك صمت مهيب مخيم على حي بئر الجير هدوء لا يكسره الا نباه كلب شارد او صوت عجلات سيارة و هي مارة مصادفة على الطريق المبتل من اثر الامطار التي هطلت في وقت سابق من الليل.
في احد المنازل و تحديدا في غرفة طفل صغير لم يتجاوز العاشرة من العمر حيث كان نائما بعمق على سريره ذو الشراشف الزقاء و العابه المثناثرة هنا و هناك تعكس براءة عمره، ما هي الا لحظات حتى بدات تتسلل الى مسامعه اصوات حادة لتنفتح عيني الطفل ببطئ معلنة عن استيقاظه، رفع الطفل جسده الصغير ليعدل جلسته على سريره و هو يفرك عينيه ليمسح عنهما اثر النوم ثم اخيرا ينصت بتمعن للاصوات الصادرة من خارج غرفته، كانت اصوات حادة و عنيفة ضرب و تكسير و صراخ مما يدل على ان هناك شجارا قد نشب في الاسفل.
بدا الخوف يتسلل الى قلب الطفل استقام ناهضا من فراشه و هو ممسك بطرف قميصه الازرق بتوتر مشى بخطوات هادئة و مرتجفة قليلا نحو باب غرفته المغلق لكن قبل ان يصل اليه فتح الباب لتدخل الغرفة امراة تبدو في الاربعينات من عمرها شعرها الاسود الطويل منسدل على كتفيها و ثوب النوم الابيض الطويل الذي ترتديه يتمايل مع خطواتها وجهها شاحب من اثر الخوف.
"مروان" صاحت ببعض من الهمس و هي تسرع نحو طفلها حاضنة اياه بحب و حنان امومي بين ذراعيها المرتجفتين، "ماما.... ماذا يحصل... اسمع اصوات" سال مروان امه بخوف و قلق واضحين لتجيب الام بشيء من التوتر و القلق و هي تمسح بحنان على راس ابنها "لا تخف.... انا معك حسنا.... لن يحصل شيء" قالت بصوت حاني و هي تحاول طمأنة ابنها لكن نبرة صوتها لم تكن مقنعة حتى لها اذ كان يشوبها شيء من الخوف الذي كان واضحا في عينيها.
اثناء ما كانت الام تحاول تهدئة ابنها حتى برغم انها هي ايضا خائفة سمع الاثناء دويا قويا صادرا من الطابق الارضي للمنزل و كان واضحا انه صوت اطلاق نار، "حسين" صاحت الام بهمس و هي تسرع الى الاسفل و خوفها على زوجها ياكل قلبها اما مروان فما كان منه الى ان مشى قليلا حتى باب غرفته ثم وقف و كان خوفه قد جمده حينها.
"حسييييييين" بينما كان مروان يقاوم تردده وخوفه في تلك اللحظة افاقه من ارتباكه صراخ امه و بشكل لا ارادي وجد نفسه يركض مسرعا ينزل الدرج و مع كل خطوة يخطوها تتسارع نبضات قلبه "ماما... بابا" ينزل و هو يصدح مناديا امه و اباه و لكن مع نزوله من اخر درجة صادفه منظر كلمة مروع هي اقل ما قد يقال عنه خصيصا لطفل بعمر مروان اذ كان والده حسين ضابط الشرطة ملقى على الارض ساكن بلا حراك بعد ان اخترقت رصاصة صدره تاركة بقعة دم يزداد انتشارها تدريجيا على قميصة الابيض مع مرور الثواني، امه جاثية على ركبيتها "حسين لا لا افق ارجوك لا لا " تصيح مناشدة زوجها بالايتاء باي حركة و لكن بلا جدوى فقد فارقت روحه جسده و مات.
و اثناء ما كانت ام مروان غارقة في صدمتها و حسرتها على زوجها تقدم مروان ببطئ و بخطوات متثاقلة ناحية ابيه لسانه عقد في لحظة و كانه صار اخرس لا يعرف كيف ينطق وقف امام جثة ابيه ينظر اليه باعين مصدومة من راسه الى قدميه لتلفت انتباه ورقة ملقاة بجانب ابيه فاقترب منها و انحنى ليلتقطها فاذا بها احدى الاوراق المستخدمة في لعب *القمار* و قد كانت بالتحديد *ورقة الجوكر* مروان برغم سنه الصغير الا انه كان على دراية بمهية الورقة.
في صباح اليوم التالي كان منزل الضابط حسين يعج برجال الشرطة الجنائية اصوات الات التصوير توثق كل شبر من مسرح الجريمة و حقائب المعدات تفتح و تغلق، الخبراء يقومون بفحص كل زاوية من المكان في سبيل ايجاد اي دليل، بصمة اصبع، اثر قدم، شعرة سقطت من الفاعل بالخطأ، اي شيء قد يجعلهم يمسكون بطرف الخيط الذي قد يقودم الى القاتل.
"كيف وضع الابواب و النوافذ" قال المفتش سائلا احد افراد الشرطة الذين كانو معه، "كلها سليمة ليس هناك ما يدل على كسر او خلع" قال الشرطي مجيبا على سؤال المفتش،"همم، و الاغراض التي تخص الضحية و عائلته" اعاد المفتش توجيه سؤال اخر.
"لا شيء يدل على التفتيش سيدي ثم ان زوجة الضابط المقتول و ابنه لم يتعرضى لاي اصابات جسدية، مما ياكد ان الاشتباك كان بين القاتل و الضحية" ادلى الشرطي بالنتائج التي وصل اليها التحقيق حتى الان مما دفع المفتش الى التفكير بينه و بين نفسه"لم يتم خلع اي باب و لا كسر ايت نافذة، لا اثار على العبث باغراض المنزل" ثم التفت مجددا الى الشرطي الواقف بقربه و ادلى سائلا"و الشهود"، اخذ الشرطي نفسا ثم نظر الى المفتش و قال مجيبا على سؤاله"السيدة ليلى زوج الضحية نقلت الى المشفى بعد فقدانها للوعي الراجح انها اصيبت بصدمة نفسية اثر ما حصل، اما مروان ابن الضحية فهو الان في قسم الشرطة، بالنسبة الى الجران فهم لم يسمعو اصوات للشجار بين القاتل و الضحية باستثناء صوت اطلاق النار و قد ادلى بعض الجيران انهم حين نظرو من نوافذ منازلهم شاهدو رجل يرتدي سترة سوداء بقبعة و وشاحا يغطي وجهه و قد توجه الى الشارع الخلفي ليحضر سيارته استطاعت الكاميرا رصدها لكن لوحتها كانت مدهونة بطلاء اسود فلم يكن الرقم ظاهرا" اكمل الشرطي اعطاء المعلومات للمفتش الذي بعد انتهاء الشرطي من الكلام سار خارج منزل الضحية و جلس القرفصاء يحدق باثار السيارة الغير واضحة كانت مجرد اثار سيارة مرسومة بالطين "هممم لم يكن اقتحاما و لا محاولة سرقة، لكن هذه الاثار تدل على ان القاتل ترك السيارة في مكان بعيد قليلا عن منزل الضحية و عن كاميرا مراقبة الطريق، يبدو انه لا يريد ان يكشف" تمتم المفتش و هو يمعن النظر في اثار السيارة على الطريق.
من جهت اخرى كانت السيدة ليلى ام مروان و زوجة الضابط حسين قد نقلت الى المشفى بعد فقدانها للوعي نتيجة الصدمة التي تعرضت لها، بالنسبة لمروان فقد تم نقله الى مركز الشرطة و قد تم الاتصال بكل الاقارب المتاحين و ابلاغهم بما حدث، كان احد عناصر الشرطة جالسا قرب مروان يحاول بهدوء الحصول منه على ايت معلومة قد تفيد التحقيق بدون ان يعرضه لضغط لكن الطفل كان صامتا طوال الوقت و يرفض الاجابة على اي سؤال كما لو ان لسانه شل من هول ما مر به.
"كفى لا داعي لضغط عليه اكثر" قال احد افراد الشرطة مخاطبا زميله الذي كان بجوار مروان يساله عن ما حصل ليلة امس، ليقوم بتحويل نظره من الطفل الى زميله ثم يتنهد و ينهض تاركا الطفل، و ما هي الا حوالي الساعة حتى دخل المكان رجل و امرأة كانا يبدوان في الخمسينات من العمر و كانت ملامحهما تصف كلما يعنيه القلق.
"مروان، مروان" قالت المراة و هي تسرع ناحية مروان الذي ما ان راها حتى تحرك بخفة من مكانه و ارتما في حضنها باحثا عن الامان بينما لفته المراة بيديها المرتجفتين و دموعها تنساب على خديها، "خالتي... بابا" قال مروان بصوت مخنوق و متزعزع دليلا على بكائه لتقوم المراة بالمسح على ظهره بحنان في محاولة لتهدئته.
"كان صامتا طوال الوقت، رفض حتى الاكل او الشرب" ادلى الشرطي الذي كان برفقة مروان موضحا لرجل و المراة حالة الطفل . "حسنا، لاباس نحن سنهتم به الان شكرا لكم" قال الرجل الواقف بجانب مروان واضعا يد على راس الطفل ليهم الشرطي بالخروج من الغرفة تاركا المجال لهم لتحدث براحتهم.
"مروان هل تذكر كل ما حصل بالامس" سال الرجل مروان بلطف لكن كان كلامه يتخلله بعض من الفضول لتعبس المراة في وجهه "خير الدين، لا تضغط على الطفل هكذا انه بحاجة الى الشعور بالامان و ليس تذكر الخوف و الالم الذي عاشه"، قالت بشيء من العتب، "لا تسيئي فهمي يا سميرة، انا ايضا لا احبذ ان يتم الضغط على مروان في هذا الوقت" اجاب خير الدين مدافعا عن نفسه امام اتهام سميرة له.
"لا اذكر الا سماع شجار في بيتنا و حين كانت ماما معي سمعنا صوت اطلاق نار فنزلنا الى الاسفل و عندها... " اجاب مروان على سؤال عمه خير الدين لكنه توقف و لم يكمل كلامه فبالكاد تمكن من شرح جزء من المعاناة التي مر بها بينما كان يمسح دموعه بيديه الصغيرتين، "حسنا حسنا بني لا باس عليك كل شيء سيكون بخير لا تقلق" ادلى خير الدين في محاولة لتهدئة ابن اخيه اثناء مسحه بلطف على راسه.
فيما بعد كان مروان جالسا على احدى المقاعد بمركز الشرطة ممسكا بقنينة مياه صغيرة يحدق بها بشرود كما لو انه يحاول استجماع شتات افكاره، "مروان" رفع مروان راسه بعد ان سمع احدا ينادي باسمه بصوت عميق ليجد رجلا يبدو في اواخر الثلاثينات يقف بشكل مرتخي واضعا يديه في جيوب معطفه الاسود الذي يبدو قديما قليلا و وشاح رمادي ملتف حول عنقه، كان ينظر الى الطفل بعينين باردتين خاليتن من اي تعبير او مشاعر واضحة.
"عمي جمال" نطق مروان اسم الرجل الواقف امامه بشكل هادئ يتخلله بعض الارتباك، ليهم جمال بالاقتراب من ابن اخيه و ينزل ليجلس بجانبه واضعا يده على كتف الطفل، "اذا.... كيف حالك" سال جمال لكن كان في نبرة صوته شيء من اللامبالاة.
"ب-بخير،" اجاب مروان ببعض الارتباك فما يعرفه ان عمه جمال ليس من الاشخاص الذين يسالون الناس عن احوالهم حتى في الاوقات العصيبة.
"بخير... انت متاكد" اعاد جمال السؤال لكن هذه المرة بشيء من الفضول و كانه لم يقتنع بجواب الطفل، ما زاد من حيرة مروان اكثر ليخفض راسه و يعيد نظره الى قارورة المياه التي بين يديه بينما جمال لا يزال يناظره بنظرة كما لو انه يحاول قراءة ما يدور براسه، و قبل ان ينطق اين منهما بايت كلمة فتح باب الغرفة المجاورة ليخرج منها كل من خير الدين و سميرة الذين استغربا لوجود جمال هنا.
"جمال.... انت ماذا تفعل هنا" سال خير الدين اخاه الاصغر بشيء من الاستغراب و الحيرة ليرد الاخر بهدوء تام "ماذا؟... ما قصدك بهذا السؤال؟ طبعا انا هنا لنفس السبب الذي انتما هنا لاجله" قال جمال اخر كلمة و هو ينظر الى مروان الذي كان ما يزال يحدق بقارورة المياه و كانه لا يسمع اي شيء من ما يدور حوله.
"هه.... و منذ متى و انت تهتم لاي شيء يا جمال" ادلت سميرة مستفسرة بطريقة ساخرة بعض الشيء اذ ان وجود جمال هنا في مركز الشرطة لاجل تفقد وضع مروان ابن اخيه قد كان امرا مستبعدا حدوثه بالنسبة لهما بحكم حقيقة ان جمال لم يكن في حياته شخصا مهتما باي شيء او انسان يعرف معنى المسؤولية.
"اوه... هل افهم من كلامكي انني فاجأتكي يا ابنة خالي" ادلى جمال بهدوء و هو يقف مع ابتسامة بالكاد كان واضحة على شفتيه و كانه كان يرد على سخرية سميرة باسلوب مستفز دون ان يظهر ذلك من ما دفع اخاه خير الدين الى التنهد بقلة حيلة ثم نظر الى سميرة قبل ان يعيد نظره الى جمال "بما انك هنا جمال، هل لي ان اعرف اين كنت بالامس" سال خير الدين بشكل جاد و هادئ و كانه يحاول الوصول الى شيء ما.
"و هل صرت تعمل مع الشرطة حتى تفتح معي تحقيقا؟ ثم لا تقل انك تشك بي، هيا و كاني قد افعل فعلة شنيعة كهذه باخي الحقيقي" صرح جمال مدافعا عن نفسه حين استشعر في سؤال خير الدين شيئا من الاتهام و قد حرص على التشديد على كلمة *الحقيقي* في اخر كلامه كمحاولة غير مباشرة منه لتذكير خير الدين بانه هو اخ حسين من نفس الاب و نفس الام بينما خير الدين اخاهما من الام فقط.
"جمال....الزم حدك" لتقوم سميرة بمعاتبته فقد فهمت بوضوح التلميح الذي كان جمال قد اشار اليه في كلامه.
"حسين كان عزيزا علينا جميعا... و لو انك كنت تهتم بالفعل ما كنت امضيت الليلة خارج المنزل، فلربما لو انك كنت هناك لكنت تمكنت من مساعدته" اضافت بحدة واضحة في كلامها موجهة عتبا صريحا لجمال الذي اطلق تنهيدة طويلة قبل ان يستدير، "كالعادة...جمال دوما يلام حتى لو لم يكن له دخل بما حصل" قال و هو يمشي بهدوء مبتعدا عنهم لينطق خير الدين مستفسرا"الى اين؟" وقف جمال و اجاب دون ان يستدير"لاقدم شهادتي...ثم اعود الى بيتي..لا شك عندي ان احدكما قد اخذ حضانة مروان بالفعل" ثم اكمل سيره لعدم رغبته بسماع اي تعليقات ساخرة من سميرة او عتاب من خير الدين.
"حقا هو بلا احساس" قالت سميرة
"لا تهتمي هذا هو جمال كان هكذا دوما و لن يتغير" رد خير الدين.
"اذا مروان سيبقى عندك" سال خير الدين.
"نعم، هو الان بحاجة الى بيئة مستقرة لاستكمال حياته بشكل طبيعي"
ردت سميرة و هي تنظر الى مروان الجالس بهدوء قبل ان تعيد النظر الى خير الدين، و قبل ان يتحدث اين منهما نطق مروان.
"اين امي؟" سال بفضول واضح في عينيه.
"هل ناخذه لرؤيتها برايك" قال خير الدين سائلا سميرة.
"ساخذه انا...ربما رؤيته قد تساعدها".
اجابت سميرة و في نبرة صوتها شيء من الحزن لتقترب من مروان و تمسك يده ثم يذهبان بعد توديع خير الدين، و في السيارة اثناء توجههما الى المشفى حيث ليلى ام مروان انتبهت سميرة ان مروان شارد طوال الوقت و يحدق من نافذة السيارة بصمت تام للتتنهد بصوت بالكاد مسموع و تكمل القيادة بهدوء.
عند الوصول الى المشفى نزل مروان من السيارة ممسكا بيد خالته و اخذ يمشي معها الى داخل المشفى حيث اقتربت سميرة من موظفة الاستقبال سائلة عن غرفة اختها الصغيرة، بمجرد ان اخذت رقمي الغرفة و الطابق توجهت الى المصعد و معها مروان و ضغطت على الازرار دقائق معدودة و كانو قد وصلو الى الطابق المحدد، خرجا من المصعد و اخذا يمشيان في الممر حتى وصلا الى الغرفة المنشودة لتهم سميرة بطرق الباب بهدوء.
"ليلى" قالت سميرة بصوت هادئ لكن مسموع
"تفضلي بالدخول"
سمع مروان و سميرة صوتا ياذن لهما بدخول الغرفة لم يكن صوت ليلى لكنه كان صوتا معروفا لسميرة لتقوم بدفع الباب بهدوء و على وجهها ابتسامة صغيرة.
"مرحبا خديجة".
قالت سميرة بلطف محيية المراة الجالسة على السرير بجانب ليلى، كانت امراة تبدو في مثل سنة سميرة و كان واضحا من مئزرها الابيض انها طبيبة و بالفعل كانت كذلك لكن كانت طبيبة نفسية و في نفس الوقت كانت صديقة لسميرة.
"اهلا سميرة، ارى انكي احضرتي مروان معك" ردت خديجة على تحية صديقتها.
"نعم فليس لديه مكان يبقى فيه الان خير الدين دوما مشغول بعمله و ليس لديه زوجة لتهتم بمروان" اجاب سميرة.
"و جمال" سالت خديجة.
"اه، ارجوكي خديجة و كاني لم اخبركي عنه من قبل"
ردت سميرة بشيء من الانزعاج الواضح من جمال لتتنهد خديجة ثم تنظر الى مروان بلطف و ابتسامة حنونة.
"مروان، لما لا تاتي و تجلس بجوار امك"
قالت خديجة و هي تشير لطفل الصغير بان يجلس على طرف السرير الذي كانت فيه امه جالسة لا تاتي بايت حركة فقط شاردة تنظر الى الفراغ بعينين خاليتين من اي تعبير، مروان لم يتكلم فقط اقترب من امه و جلس قربها ممسكا بيدها و مع ذلك لم تتفاعل ليلى بتاتا فقد بقيت على حالها مما دفع سميرة بان تنظر الى صديقتها نظرة يشوبها القلق لتستقيم خديجة من مكانها و تشير لسميرة بان تتبعها.
و في الممر كانت سميرة واقفة مع خديجة تعابير وجهها تدل على قلق كبير يجتاح قلبها لكنها ضلت صامتة في انتظار تفسير من خديجة.
"لقد دخلت في حالة اكتئاب حاد"
صرحت خديجة بهدوء و لكن تصريحها هذا كان كصاعقة نزلت على راس سميرة التي اتسعت عينيها بعدم تصديق لما تسمعه اذنيها.
"كيف؟! " سالت سميرة بعدم تصديق.
"يبدو ان احداث ليلة امس كانت اكبر من قدرة عقلها على الاحتمال فبالتالي تعرضت لصدمة ادخلتها في حالة من الاكتئاب الحاد لذلك يستحسن بقاؤها تحت المراقبة حاليا"
شرحت خديجة وضع ليلى لسميرة بشكل مبسط لكن و مع ذلك كان هناك شيء في كلام خديجة لم تتمكن من فهمه.
"تحت المراقبة! لكن لما يجب ذلك" سالت سميرة بفضول.
"ان حالة الاكتئاب الحاد ليست سهلة فلا احد يعلم ماذا يدور في عقل المصاب بها، ان ليلى الان تعيش في ظلام محيط بعقلها و الارجح ان تفكيرها سيصبح سوداويا مع الوقت اذا لم نقم بتخفيف اكتئابها" وضحت خديجة اكثر.
"المعنى" استفسرت سميرة.
"المعنى انها قد تفكر في الانتحار او اذيت نفسها".
اجابت خديجة بشكل صريح مما جعل قلب سميرة يخفق بشكل مضاعف اثر الخوف الناجم عن فكرة ان ليلى يمكن ان تقدم على قتل نفسها، وضعت سميرة يدها على صدرها محاولة اخذ انفاسها و التخفيف من توترها.
"حسنا لكن لا اريد ان يعرف مروان بالامر" اوضحت سميرة.
"افهم ذلك، و بالحديث عنه كيف تبدو لكي حالته هل هو يتفاعل معكم بشكل طبيعي" سالت خديجة.
"ليس كثيرا، صار حديثه قليلا و لاحظت انه يشرد كثيرا ايضا، هل تضنين انه يعاني نفس الحالة التي تعاني منها امه" ادلت سميرة بقلق.
"لا، يبدو ان شروده و قلة كلامه بسبب الصدمة لا اكثر، لكن ان لاحظتي ايت اعراض سلبية في سلوكه احضريه الي" اوضحت خديجة.
بعد الحديث الذي دار بين سميرة و خديجة قامت سميرة باخذ مروان الى بيتها حيث كان في استقبالهما سلمى ابنة سميرة البالغة من العمر ستة و عشرين عاما و عبد الله زوجة سلمى المحامي البالغ من العمر واحدا و ثلاثين عاما.
"مرحبا مروان" بادر عبد الله بالترحيب بمروان.
"انت بخير صحيح" سالت سلمى و هي تنحني لتصير بمستوى الطفل ماسحة بلطف على خده بينما اكفى مروان الايماء براسه بهدوء فقط.
لاحقا و على مائدة العشاء كان مروان جالسا يهدوء ممسكا بشوكته و هو يقلب في طعامه تارة ياكل لقيمات صغيرة و تارة يكتفي بتحريك الشوكة في طبقه و تارة اخرى ينظر الى ياسين ابن سلمى و عبد الله، ذاك الرضيع البالغ من العمر سنة واحدة الذي كلما نظر اليه احد او لاعبه قليلا ترتسم ضحكة بريئة على شفتيه و يحرك يديه بشكل طفولي بريء.
"اذا امي هل فكرتي في الامر"
قالت سلمى موجهة سؤالها لامها التي ما ان سمعت استفسار ابنتها وضعت كوب العصير الذي كانت ترتشف منه جانبا و تنهدت بهدوء ثم نظرت الى ابنتها نظرة محايدة.
"ما زلت لا اعلم ان كان الانتقال الى العاصمة في هذا الوقت خيارا جيدا" صرحت سميرة.
بعد سماع مروان لتصريح خالته سميرة توقف عن تقليب طعامه و ترك الشوكة من يده و اخذ يحدق في خالته باستغراب و فضول في عينيه.
"بل انه افضل شيء يمكن ان نقوم به الان مروان بحاجة الى تغيير البيئة المحيطة به لكي يخفف الضغط الذي عليه" اوضح عبد الله.
"حسنا الذهاب او البقاء هذا يرجع الى مروان" قالت سميرة و هي تنظر الى مروان.
اخذ مروان يفكر و هو يحدق بطعامه و كانه يحاول الاختيار بين الانتقال الى العاصمة و بدا حياة جديدة او البقاء في وهران و الاستمرار بعيش الليلة المفجعة كل يوم.
"هل سيكون جيدا الذهاب الى العاصمة الان" سال مروان.
"اجل، سيكون من الافضل ان تغير الجو هذه الفترة" اجاب عبد الله موضحا.
"حسنا اذا انا موافق" صرح مروان.
في اليوم التالي كانت العائلة قد جهزت كل شيء من اجل الانتقال لكن سميرة فضلة البقاء بضعة ايام اخرى في وهران قبل ان تلحقهم الى العاصمة لاجل الاطمئنان على ليلى. و في طريقهم كان مروان ما يزال شاردا كعادته يحدق من النافذة و في بعض الاحيان يلتفت الى ياسين النائم في كرسي الاطفال.
في وقت لاحق كانو قد وصلو الى بيتهم الجديد كان مهيئا سابقا بحكم ان عبد الله و سلمى كانا يخططان للانتقال الى العاصمة قبل شهر لاجل عمل عبد الله، حال وصولهم دلت سلمى مروان على غرفته حين راها لاول مرة شعر ببعض الحنين فهي لم تكن مختلفة كثير عن غرفته التي في منزله السابق.
بعد ان قام مروان بترتيب اغراضه في اماكنها بمساعدة من سلمى استلقى على السرير و عاد الى الابحار في بحر افكاره و كانه يجبر نفسه على تذكر اي تفصيل من تلك الليلة السوداوية، و في لحظة تذكر تلك البطاقة *ورقة الجوكر* حالما تذكرها انتفض من مكانه و سارع بمد يده الى حقيبته الصغيرة و اخذ يبحث داخلها ليخرج منها ورقة الجوكر، جلس على سريره يحدق بها كما لو ان هناك حوارا بلا كلمات يدور بينه و بينها ، كان يرى صورة الجوكر ذو الابتسامة المرتسمة على وجهه و كانه يسخر منه و كانه يهزء بحقيقة كونه مجرد طفل كان في يوم ينعم بالامان تحت جناحي والديه لتنقلب حياته في ليلة سوداء و تتحول الى كابوس حقيقي.
"لما تركتها خلفك، هل كنت تريد ترك دليل لشرطة لتجدك او انك توقعت ان اجدها انا اولا"
تمتم مروان و هو يشد يده الصغيرة على البطاقة و يحدق بها بنظرات حادة لدرجة انها لو كانت سكاكين لكانت مزقة الورقة اربا اربا، لكن مروان لم يكن لديه وقت ليكمل التفكير في الامر فقد سمع صوت سلمى تناديه لاجل العشاء ليقوم بتخبئة الورقة جيدا خوفا من ضياعها هو لا يجب ان يفقدها فهي الاثر الوحيد الذي تركه قاتل ابيه خلفه.
في هذه الايام القليلة التي مرت كان كل من عبد الله و سلمى يلاحظان تحسنا في حالة مروان اذ اصبح شروده يقل تدريجيا و اصبح يكلمهم بدون توتر او ارتباك كما لو ان ضن عبد الله كان في محله و ان التغيير في المكان المحيط به ساعد في اراحة نفسيته.
في صباح يوم الاحد كان مروان يقف امام صفه الجديد بحكم انتقاله الى مدرسة جديدة قامت المعلمة بتعريف الصف على مروان و طلبت منهم مساعدته على التاقلم و في وقت لاحق من الحصة كلفت المعلمة التلاميذ بكتابة تعبير بعنوان *حلمي في المستقبل* بينما اخذ كل تلميذ قلمه و بدا بالكتابة في على دفتره، منهم من كان يريد ان يصبح طبيبا و منهم من كان يريد ان يكون مهندسا و اخر يريد ان يصبح لاعب كرة قدم مشهور، كانت هذه هي الافكار التي كانت تقرؤها المعلمة و هي تمشي بين الطاولات ليلفت انتباهها ان مروان جالسا فقط يحدق بالصفحة البيضاء في دفتره لتقترب منه و تمسح على راسه بلطف.
"ما الامر مروان" سالت المعلمة بلطف
"انا فقط لم احدد بعد ماذا اريد ان اصبح حين اكبر" اجاب مروان.
"افهم هذا، حسنا لا داعي للاستعجال يمكنك التفكير على مهلك حين تعود الى البيت و تقرر" اوضحت المعلمة بابتسامة لطيفة
لاحقا بعد عودة مروان الى المنزل جلس امام مكتبه الصغير واضعا يديه على خده و هو ينظر الى دفتره المفتوح على صفحات بيضاء لتلمع عينيه فجاة و كانه حسم امره، ليمسك القلم و يبدا بالكتابة و كانت اول كلمات كتبها هي *في المستقبل....اريد العدالة * ثم حول نظره الى بطاقة الجوكر الموضوعة امام دفتره و كان النظر اليها و تذكر مأساته صار هو ما يعطيه حافزا للاستمار.
♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕♕
اتمنى ان الفصل الاول من الرواية نال اعجابكم.
ارجو ان تشتركو في المدونة و فضلا منكم لا تنسو وضع تعليق لدعمي و شكرا.
القاكم في فصل جديد.
تعليقات